خرج الاجتماع الثلاثي في دمشق بين وزير خارجية الأردن ووزير خارجية السلطة الانتقالية والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، ببيان مطول يتضمن ما وصفها ب“خارطة طريق” لمعالجة تداعيات المجازر في السويداء.
البيان يبدو للوهلة الأولى، كأنه يحقق خرقاً في الأفق المسدود الذي آلت إليه الأمور، ويحمل بعض البنود الإيجابية أو تلك التي طالما كانت مطالب أساسية في السويداء، وطالما تجاهلتها السلطة وحرضت على المحافظة بسببها، وبين هذه البنود: السماح للجنة التحقيق الأممية بالدخول إلى السويداء ومباشرة التحقيق، وضمان تدفق المساعدات إلى المحافظة المحاصرة منذ شهرين، إلى جانب إعادة الخدمات وعودة النازحين والمختطفين، بل وحتى تشكيل شرطة محلية من أبناء المحافظة.
غير أن قراءة متأنية فيه ومقارنته بالواقع على الأرض، تكشف تناقضاً صارخاً بين النصوص المعلنة والواقع، وبين وعود السلطة الانتقالية ومسارها الفعلي منذ استيلائها على الحكم في كانون الثاني الماضي بعد ما يسمى مؤتمر النصر.
تحقيق دولي ومحاسبة محلية!
إشراك لجنة التحقيق المستقلة الدولية بشأن سوريا خطوة ضرورية، وهي مطلب يومي لأهالي السويداء، لكن ترك المحاسبة بيد السلطة الانتقالية ينسف جدواها، فهذه السلطة، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، متهمة بالتورط المباشر في المجازر، كيف يمكن الوثوق بمن كان الآمر والشريك في ارتكاب المجازر أن يكون المرجع في محاسبة مرتكبيها؟
خدمات ومساعدات مؤجلة
الحديث عن المساعدات وإعادة الخدمات الأساسية يبدو مطمئناً، لكن أهالي السويداء جربوا مثل هذه الوعود من قبل، وتحطمت ثقتهم بهذه السلطة بشكل غير قابل للعكس أو الإصلاح.
اتفاق أيار الماضي بين السويداء والسلطة الانتقالية نص على تأمين الأخيرة طريق دمشق–السويداء، لكن السلطة لم تكتف فقط بعدم تنفيذ الاتفاق، بل جعلت الطريق ورقة حصار وأداة ابتزاز بيدها، فما الذي يضمن أن لا يتحول الاتفاق الجديد إلى نسخة مكررة من وعود فارغة؟
عودة النازحين والمختطفين: تحت رحمة خاطفيهم
عودة الأهالي إلى قراهم وإطلاق سراح المختطفين مطالب إنسانية ملحة، وملفات تقض مضاجع أهالي السويداء منذ شهرين، لكن حين تحال هذه الملفات إلى السلطة المتهمة بالتهجير والخطف والقتل، يصبح التنفيذ محل شك عميق، والأخطر أن ملف إعادة الإعمار سلم وفق الاتفاق كلياً لهذه السلطة، أي أن أمراً حيوياً وكبيراً كإعادة الإعمار، وضع بيد من دمّر القرى أساساً، وهذا يفتح الباب أمام سرقات ومحسوبيات وابتزاز، بدل أن تكون إعادة الإعمار بيد أصحاب الأرض وحدهم.
وهنا لا يسعني إلا التخيل لو أن ملف إعادة إعمار سوريا وضع بيد بشار الأسد، الذي دمرها وقتل أهلها وهجرهم، هل كان يمكن لأي سوري أن يقبل مثل هذا الأمر؟ وهل كان يمكن الثقة بنزاهة المجرم؟
محاربة الكراهية: تناقض وقح
البند الخاص بتجريم خطاب الكراهية يبدو مثالياً، ومصاغاً بكلمات شاعرية لو طبقت لعشنا في بلد فاضل خيالي، لكنه يتهاوى أمام حقيقة أن السلطة ذاتها من آذارت حملات التحريض والتشويه ضد أهالي السويداء، وشيطنتهم في أعين باقي السوريين، كيف يعقل أن تكون الجهة المحرّضة هي نفسها الضامنة لوقف التحريض؟ وهل سيمكنها أصلاً احتواء الضرر والشرخ الاجتماعي الذي تسببت به جراء شهور من الضخ الإعلامي التحريضي؟
الحوار مع القتلة؟
الدعوة لتشكيل وفود من السويداء للتحاور مع السلطة قد تبدو خطوة نحو المصالحة لكل من لا يعرف عمق الجرح في السويداء، لكنها في الواقع مناورة سياسية، ومحاولة كسب وقت من قبل السلطة، أو الصيد في الماء العكر بوضع أفخاخ على شكل بنود، تعرف سلفاً أنها ستكون مرفوضة، وتضع بذلك الكرة في ملعب السويداء وتظهرها على أنها الجانب المعطل للاتفاق، إذ كيف يمكن لعائلات فقدت أبناءها أن تتحاور مع من تعتبره المسؤول عن دمائهم؟ العدالة والمحاسبة المستقلة أولاً، وإلا فإن أي حوار لن يكون سوى ستار للتغطية على الجرائم.
الترتيبات الأمنية: مطلب مفرغ من مضمونه ولد ميتاً
طالما طالب أهالي السويداء بتشكيل قوة شرطية وأمنية محلية، وكان هذا أحد أبرز بنود اتفاق أيار المذكور، لكن تعيين قائد هذه القوة من قبل دمشق حتى وإن كان من أبناء المحافظة، ينسف الفكرة، خاصة أن الشخصية المرشحة لقيادة الجهاز الأمني من قبل السلطة مرفوضة شعبياً، ومتهمة بالتواطؤ مع القوات الحكومية والمشاركة في المجزرة التي أودت بحياة أكثر من ألفي مدني من السويداء منتصف تموز/تموز الماضي.
السويداء ومطلب تقرير المصير
منذ وقف إطلاق النار، يخرج أهالي السويداء أسبوعياً إلى الشوارع مطالبين بحقهم في تقرير مصيرهم، بعيداً عن السلطة المركزية، وقد بدأت بالفعل حملة توقيعات لمطالبة المجتمع الدولي بدور جاد، يمنح المحافظة الحق في تحديد مستقبلها، وهو المطلب الشعبي الحقيقي، الذي يتجاهله الاتفاق تماماً.
الاتفاق الثلاثي يضع على الورق جملة من البنود الإيجابية، لكنه يفتقد إلى الضمانات، ويُسلّم الملفات الحساسة لسلطة متورطة في المجازر، والنتيجة الوحيدة المتوقعة من مثل هذا الاتفاق، هي إعادة تدوير الأزمة بدل حلها.
العدالة والمصالحة لا تبنيان على وعود من الجهة المتهمة، بل عبر إشراف دولي مستقل، وتمكين المجتمع المحلي من إدارة شؤونه بنفسه، وإلا فإن “خارطة الطريق” المعلنة لن تكون سوى طريق جديد نحو مزيد من الانتهاكات وخيبات الأمل.




